كمخرج وصانع افلام، لربما لدي نظرة مختلفة عن المشاهد العادي للأفلام كوني الاحظ وبدقة نتاج صناعة الفيلم ناهيك عن القصة والسيناريو والحبكات وغيرها، شاهدت اليوم فيلم أوبينهايمر واستطيع الجزم منذ البدئ انه لن يكون فيلما ممتعا للجمهور الذي يعشق افلام الأكشن او افلام الحروب أو حتى الافلام التاريخية، بل ان هذا الفيلم لربما سيعجب به على الاغلب محبي افلام كريستوفر نولان بشكل رئيسي، وصناع الافلام، والمخرجين، ومحبي الافلام التي تحتاج التركيز والتفكير ولربما مشاهدة الفيلم اكثر من مرة لاكتشاف جميع حيثياته، واغلب افلام كريستوفر نولان هي من هذا النوع.
لم يتم استعمال اي خدع بصرية باستخدام الكومبيوتر في جميع المشاهد وحتى مشاهد الانفجار، وهذا طبعا يضيف قيمة عالية جدا للفيلم من الناحية الانتاجية (ولا اقصد المالية منها بل القيمة المعنوية).
الفيلم من نوع افلام الدراما والسيرة الذاتية، احداثه موزعة على ازمان مختلفة وهو ما يتميز به اسلوب نولان بشكل متق، وشارك به نخبة من انجح نجوم سينما هوليوود من أمثال (سيليان مورفي) بدور البطل وهو العالم روبرت اوبنهايمر، وفلورنس بف، روبيرت داوني، إيميلي بلنت، رامي مالك، مات ديمون، وغيرهم الكثير.
نولان ابدع في قيادة فريق الانتاج في كل جوانبه بدون استثناء، حيث هناك المزيج المتناقض ما بين الموسيقى والصورة، فمثلا، في لحظات تستطيع ان تشاهد ان بطل الفيلم قد نجح نجاحا باهرا في تجاربه، مما دفع جميع العاملين معه من رفعه على اكتافهم احتفاء به مما يدفعك (منطقيا) للشعور بنشوة الانتصار وتحقيق انجاز كبير، لكن بالحقيقة وبنفس الوقت انت تشعر شعور متناقض بطريقة سلبية، حيث ان الموسيقى التصويرية تعطي انطباع ان هناك مصيبة حدثت وليس انتصارا كالذي يظهر على الشاشة، وهذا المزيج المتناقض (المتقن) يجعلك تتنفس الصعداء ولا تعلم لماذا.
من الرموز الاخرى التي استخدمها المخرج ببراعة، هي استعماله لرمز الحرب والدمار من خلال وجود لقطات لأرجل كثيرة وهي تضرب الارض بشكل مستمر مثل طبول الحرب، او اقتراب الخطر، وقام باستعمال هذه الرموز بأكثر من مكان ليضيف شعورا بعدم الراحة للمشاهد، مما يعكس بشكل مباشر للمشاهد شعور البطل بتلك المشاهد، واغلب تلك المشاهد تمتزج ايضا بالتناقض.
فمثلا، عند نجاح القنبلة الذرية على هيروشيما، احتفل به الاعلام الامريكي والجماهير واصبح البطل وحديث العالم اجمع وصوره على جميع المجلات الصحف، وحين دخوله الى قاعة المؤتمر ليلقي كلمته للجمهور بوسط هتافات الجمهور الغفير، وطريقه الى المنصة كان مليئا بأصوات الارجل التي تضرب على الارض باستمرار، ممزوجة بصوت انفجار مستمر في الخلفية، وكل هذا بتخيلات شخصية البطل فقط، حيث في لقطات من زوايا اخرى يظهر المنظر والأجواء والاصوات طبيعية مع تواجد الجمهور، وخلال حديثه على المنصة، يتعمد المخرج الى الغاء صوت الجماهير تماما، تاركا البطل كأنما يتحدث بغرفة فارغة تماما بوجود صوت الانفجار المستمر واهتزاز الحائط من خلفه تعبيرا عن الانفجار متزامنا مع لقطات الجمهور بدون صوت وهو يهتف له.
بالتأكيد هناك سبب يدفع المخرج ان يبدع بتلك اللقطات، والسبب هو التناقض الموجود عند البطل نفسه، فبداخله يشعر انه قد عمل عملا اجراميا لطخ يديه بدماء ارواح مئات آلاف من الناس الابرياء، وبنفس الوقت هو يتحدث امام الناس بطريقة توحي انه (او انهم كحكومة) قد نجحوا بالانتصار في الحرب وانهاء الحرب، هذا التناقض قد تم صناعته سينمائية بحرفية وتميز واضح يستحق عليه المخرج كل الثناء كونه أيضا كاتب السيناريو.
طبعا هناك العديد من الرموز المستخدمة بذكاء المخرج، من ضمنها طريقته المعتادة بطرح القصة بأزمان مختلفة لكنها جميعها تدور حول نفس الموضوع ونفس القصة ونفس محور احداث الفيلم، فقط تحتاج تركيز من المشاهد حتى يفهم الترابط ما بين الاحداث، واغلبها احداث المحاكمات والتحقيقات والصراعات ما بين بعض المسؤولين في الدولة واستغلالهم للبطل من جانب، وهموم البطل وحياته الخاصة من جانب آخر.
الفيلم يعتبر تحفة فنية بنظري، من ناحية السيناريو المكتوب بشكل مثالي، والحوارات المثالية التي لم تزد او تنقص حرفا واحدا منها، وجميعها كان ضروريا لإعطاء عمق بالأحداث وتقديم العمل بشكل متكامل للمشاهد.
الفيلم يستحق المشاهدة جدا لمحبي افلام كريستوفر نولان، ويستحق التقييم العالي الذي اعطي له من مواقع عالمية مثلا موقع أي ام دي بي، وموقع روتن توماتوس.
المخرج فراس سمير